كيف صنع أردوغان أسطورة حكمه وهل يعيد تركيا إلى الإمبراطورية العثمانية؟
منذ الساعات الأولى ليل الخامس عشر من يوليو عام 2016 بدت تركيا وكأنها على حافة انهيار كامل. عشرات الجنود يقتحمون مبنى التلفزيون الرسمي في إسطنبول ويجبرون المذيعة تحت تهديد السلاح على قراءة بيان عاجل يعلن الإطاحة برئيس البلاد رجب طيب أردوغان. جسور البوسفور تغلق أمام حركة المرور والدبابات تنتشر في الشوارع فيما يتردد دوي الرصاص وتصعد الطائرات الحربية لقصف مواقع حساسة في الدولة مما ينشر الرعب بين السكان ويترك مئات القتلى وآلاف المصابين في الساعات الأولى للانقلاب الذي بدا الأكثر خطورة منذ عقود.
لحظة الفيس تايم التي غيرت مجرى الأحداث
في ذروة الفوضى ظهر أردوغان عبر اتصال بالفيس تايم يدعو الشعب إلى النزول للشوارع والدفاع عن الديمقراطية. لم تمر ساعات حتى بدأت موازين القوة تنقلب وتم إحباط المحاولة الانقلابية قبل فجر اليوم التالي. عاد أردوغان إلى إسطنبول في مشهد شعبي ضخم مؤكدا قدرته على حشد الجماهير وإفشال انقلاب استخدمت فيه دبابات وطائرات حربية عبر مكالمة فيديو فقط مما جعل تلك الليلة نقطة تحول مفصلية في تاريخ تركيا السياسي المعاصر.
جذور الحكاية تعود إلى تأسيس الجمهورية
لفهم كيفية وصول تركيا إلى تلك اللحظة المعقدة لا بد من العودة إلى عام 1923 لحظة تأسيس الجمهورية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي أنهى الخلافة العثمانية وبدأ مشروع علمنة الدولة. تم إلغاء المحاكم والمدارس الدينية وتغيير الدستور وتطهير اللغة التركية من المفردات العربية والفارسية وفرض أنماط غربية في اللباس والهوية. كانت تلك الإجراءات بداية قطيعة ثقافية عميقة بين تركيا وإرثها العثماني ما أثار معارضة دينية وقومية قُمعت بقوة في الثلاثينيات.
تركيا بين الحرب العالمية الثانية والتحالفات الجديدة
خلال الحرب العالمية الثانية نجحت تركيا في تجنب الانخراط في النزاع رغم أهميتها الجغرافية. وبعد الحرب توجهت نحو الولايات المتحدة وانضمت لحلف الناتو في بداية الخمسينيات وأرسلت آلاف الجنود إلى الحرب الكورية لإثبات ولائها للمعسكر الغربي ما فتح الباب لعلاقات استراتيجية قوية مع واشنطن وتعاون متصاعد مع إسرائيل منذ عام 1949.
عقود الانقلابات والأزمات
شهدت تركيا في السبعينيات والثمانينيات اضطرابات سياسية وعنفاً في الشوارع وانهياراً اقتصادياً انتهى بانقلاب 1980 الذي يعد الأعنف في تاريخها حيث أُعدم المئات واعتُقل أكثر من 650 ألف مواطن وفرضت الإقامة الجبرية على أكثر من مليون ونصف شخص وسُحبت الجنسيات من عشرات الآلاف مما جعل تلك الفترة الأكثر قتامة في تاريخ الجمهورية.
صعود التيار الإسلامي مع نجم الدين أربكان
مع بداية التسعينيات عاد الخطاب الديني ليتقدم المشهد السياسي بقيادة نجم الدين أربكان الذي عارض العلمانية بشدة وتمكن عام 1996 من الوصول إلى رئاسة الوزراء في مفاجأة تاريخية. لكن الدولة العميقة سعت لإسقاطه عبر ضغوط سياسية انتهت بانقلاب ناعم أعاده إلى خارج السلطة وكانت تلك اللحظة بداية بروز أحد أهم تلاميذه رجب طيب أردوغان.
بدايات أردوغان ومسيرته نحو الصعود
ولد أردوغان في إسطنبول عام 1954 ونشأ في بيئة شعبية متدينة مع شغف برياضة كرة القدم التي مارسها رسميا لمدة أربعة عشر عاما قبل أن يتجه إلى التعليم والسياسة. انضم لحزب أربكان وتدرج داخله ثم فاز بمنصب رئيس بلدية إسطنبول عام 1994 محققاً نجاحات كبيرة في حل مشكلات المياه والنفايات والمواصلات مما عزز شعبيته داخل تركيا.
السجن الذي غير مسار الزعيم
تعرض أردوغان للاستهداف من خصومه داخل الدولة العميقة بعد إلقائه قصيدة اعتُبرت تحريضا دينيا مما أدى إلى سجنه عشرة أشهر. لكن السجن أسهم في إعادة صياغة رؤيته السياسية فخرج ليؤسس حزب العدالة والتنمية عام 2001 كتيار إسلامي ديمقراطي أكثر انفتاحا على الغرب وأكثر واقعية في التعامل مع الدولة ومؤسساتها.
انطلاق المرحلة الجديدة في تركيا
مع بداية الألفية صعد حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وبدأت تركيا مرحلة نمو اقتصادي واسع وإصلاحات سياسية وأمنية شاملة. تدريجيا أصبح أردوغان اللاعب الأكثر تأثيراً في المشهد التركي داخلياً وخارجياً واستمر في تعزيز نفوذه حتى وصل إلى اللحظة التي تمكن فيها من إفشال انقلاب 2016 عبر قوة التأييد الشعبي والمؤسساتي التي بناها على مدار أكثر من عقدين.
تأثيرات الانقلاب وملامح الجمهورية الجديدة
بعد الانقلاب دخلت تركيا مرحلة إعادة هيكلة عميقة للدولة شملت تغييرات دستورية وانتقال البلاد إلى النظام الرئاسي ومحاكمات واسعة طالت متهمين بالانتماء لجماعة غولن. وبذلك أصبح أردوغان، بالنسبة لمؤيديه، القائد الذي أنقذ البلاد من الفوضى فيما يراه معارضوه رجل الدولة الأقوى منذ عهد أتاتورك.
تركيا، رجب طيب أردوغان، انقلاب 2016، نجم الدين أربكان، مصطفى كمال أتاتورك، الدولة العميقة، إسطنبول، الجيش التركي، حزب العدالة والتنمية، تاريخ تركيا، السياسة التركية،













