أورشليم من ذهب
أورشليم من ذهب .. الأغنية التي مهدت لاحتلال القدس وأيقظت الحماسة الإسرائيلية (تقرير)

جولة في كلمات أغنية صنعت تاريخًا .. قبل أسابيع قليلة من اندلاع حرب يونيو 1967، جلست الشاعرة والموسيقية الإسرائيلية نعومي شيمر لتكتب أغنية بدت عاطفية في ظاهرها، لكنها حملت بين سطورها دلالات سياسية عميقة؛ الأغنية حملت اسم "أورشليم من ذهب"، وصارت لاحقًا نشيدًا غير رسمي يعكس التطلعات الصهيونية للسيطرة على البلدة القديمة في القدس، وعلى الحي اليهودي تحديدًا، الذي كان تحت السيادة الأردنية آنذاك.
ركزت شيمر على صورة القدس الخالية من اليهود، متعمدة تجاهل حقيقة وجود آلاف السكان العرب الذين كانوا يملأون الأسواق ويصلون في المسجد الأقصى وقبة الصخرة، في أحد مقاطعها الشهيرة قالت: "كيف جفت الصهاريج، وساحة السوق فارغة، ولا أحد يصعد إلى الحرم القدسي في البلدة القديمة". كلمات بدت كأنها إعلان شوق لمدينة بلا حياة، بينما كانت الحياة العربية الإسلامية تنبض فيها يوميًا.
بين الواقع والمحو الرمزي
الأغنية التي أرادت إثارة الحماسة الوطنية في قلوب اليهود، أثارت أيضًا جدلًا واسعًا بسبب طمسها المتعمد للوجود العربي، ورغم أن شيمر حاولت بعد الحرب إدخال تعديل على المقطع ليعكس "تحرير" البلدة القديمة كما وصفه الإسرائيليون، إلا أن النسخة الأصلية ظلت الأكثر تداولًا، وظلت تتردد في المناسبات الرسمية والعسكرية.
ويروي بعض المعاصرين أن نسختهم المفضلة كانت أحيانًا تلك التي غناها الأطفال في رياض القدس، ببراءة تامة، كما فعلت شقيقة الراوي التي حفظت الأغنية في طفولتها، لكنها بدلت اللحن إلى كلمات منطقية بسيطة جعلتها أقرب إلى أغنية مدرسية منها إلى نشيد وطني.
الأغنية كسلاح نفسي في حرب 1967
"أورشليم من ذهب" لم تكن مجرد مقطوعة فنية، بل تحولت إلى أداة من أدوات التعبئة النفسية خلال حرب الأيام الستة، البيت الأوسط من الأغنية كان يرسم مشهدًا دراميًا: صهاريج جافة، أسواق خالية، ورياح تعوي في الكهوف، وكأن المدينة تنتظر خلاصًا يهوديًا، بعد الحرب، أضافت شيمر بيتًا جديدًا يعلن "العودة" إلى الصهاريج والسوق والحرم القدسي، في صورة تجسد الانتصار العسكري وتحويله إلى حدث أسطوري.
الدافع الوجودي وراء الانتصار
لكن نجاح إسرائيل في السيطرة على القدس لم يكن وليد الأغنية وحدها، بل ارتبط بعقيدة وجودية صلبة، الإسرائيليون كانوا يدركون أن خسارة الحرب تعني ببساطة نهاية دولتهم. كانت معادلة البقاء واضحة: يكفي أن يخسروا مرة واحدة ليُمحى وجودهم، بينما يستطيع العرب أن يخسروا مرارًا ويعودوا من جديد لمحاولة أخرى.
هذا الإدراك جعل حرب 1967 بالنسبة للإسرائيليين معركة حياة أو موت. التشبيه الأقرب لذلك، كما يصفه بعض المحللين، أن تخسر ألمانيا الحرب العالمية الثانية ثم تُطرد كل شعوبها، وتُعاد تسميتها باسم جديد، وتُوطّن فيها شعوب أخرى من إنجلترا وفرنسا وأمريكا وإسبانيا وهولندا، هكذا كان يخشى الإسرائيليون أن يحدث لو هُزموا، إذ توقعوا أن يُطردوا جميعًا وتُعاد تسمية البلاد "فلسطين"، وتُسكن فيها أغلبية مسلمة جديدة.
معركة بقاء وصياغة هوية
منذ عام 1947، أصبح البقاء على قيد الحياة بالنسبة للإسرائيليين رهينًا بالانتصار العسكري، لم تكن لديهم رفاهية الخسارة، بينما كان خصومهم العرب قادرين على استيعاب الهزيمة ثم إعادة بناء جيوشهم. هذا الشعور عزز لديهم تصميمًا مضاعفًا، وجعل كل حرب يخوضونها معركة فاصلة لا تحتمل الفشل.
"أورشليم من ذهب" جسدت هذا الهاجس الجمعي، وربطت بين الحلم الديني اليهودي بالعودة إلى القدس وبين الضرورة السياسية والعسكرية لضمان بقاء الدولة العبرية، ومن هنا جاءت قوتها الرمزية، إذ تجاوزت كونها مجرد أغنية إلى كونها وثيقة سياسية ثقافية ساهمت في شرعنة الاحتلال وتكريسه في الوعي العام الإسرائيلي.
بين الفن والدعاية
اليوم، وبعد مرور عقود على كتابتها، ما زالت الأغنية تثير نقاشات واسعة. هل كانت فعلًا عملاً فنيًا بريئًا عبر عن مشاعر فردية؟ أم أنها كانت جزءًا من ماكينة دعائية ضخمة سبقت الهجوم على القدس؟ الحقيقة أنها مثلت الوجهين معًا: إبداعًا موسيقيًا لشاعرة موهوبة، وسلاحًا نفسيًا استخدم لحشد الرأي العام وتحويل الحرب إلى نصر أسطوري.
الخاتمة: نشيد مدينة متنازع عليها
أغنية "أورشليم من ذهب" لم تعد مجرد مقطوعة موسيقية، بل صارت رمزًا لتاريخ طويل من الصراع على المدينة المقدسة. بالنسبة للإسرائيليين، هي نشيد العودة والتحرير. وبالنسبة للعرب، هي دليل على محو الوجود الحقيقي للسكان الأصليين وتزييف مشهد القدس.
وبين هذين المنظورين، تبقى الأغنية شاهدًا على كيفية استخدام الفن كأداة في صناعة الذاكرة الجماعية وتوجيه الوعي السياسي. إنها قصة مدينة تغنيها الكلمات بقدر ما تكتبها الحروب.
أورشليم من ذهب، نعومي شيمر، حرب الأيام الستة، احتلال القدس 1967، إسرائيل والأردن، الحي اليهودي، المسجد الأقصى، قبة الصخرة، حرب يونيو 1967، الصراع العربي الإسرائيلي، أناشيد إسرائيلية، التاريخ الفلسطيني، الدعاية الإسرائيلية، البلدة القديمة في القدس