فن المدح والإنشاد الصوفي.. من ياسين التهامي إلى ”عليل يشتفي” روح تتجدد في وجدان المصريين

في زمن تتبدل فيه الأذواق وتتغير فيه ملامح الفن الشعبي، يظل فن المدح والإنشاد الديني الصوفي ركيزة من ركائز الروح المصرية، وصوتًا خالدًا يتجاوز الحدود الجغرافية بين الصعيد والوجه البحري، ليجمع الناس على كلمة الحب الإلهي والمدح النبوي، من مجالس الذكر في القرى إلى قاعات الأفراح في المدن، ما زال هذا الفن يحتفظ ببريقه وخصوصيته، ويجدّد حضوره في العصر الرقمي عبر أجيال جديدة من المنشدين الذين يجمعون بين الأصالة والتجديد.
الشيخ ياسين التهامي.. مدرسة الروح المصرية
عندما يُذكر الإنشاد الصوفي في مصر، يتصدر اسم الشيخ ياسين التهامي المشهد كرمز ومدرسة قائمة بذاتها. بصوته المفعم بالشجن والسكينة، استطاع أن يحول القصيدة الصوفية إلى تجربة وجدانية كاملة، تمتزج فيها الموسيقى بالكلمة، والعشق الإلهي بالتعبير الإنساني العميق،
يقول متابعوه في الصعيد إن الاستماع إلى التهامي لا يقتصر على الطرب، بل هو نوع من "الصفاء الروحي"، إذ يفتح أبواب الذكر والتأمل ويعيد الإنسان إلى جذوره الإيمانية، لم يعد الإنشاد معه مجرد أداء ديني، بل أصبح حالة فنية وثقافية متكاملة، ترسم ملامح الهوية الصوفية للمجتمع المصري.
مصطفى جمال.. الجيل الجديد يحمل الراية
من بين الأصوات التي واصلت المسيرة الصوفية بروح شبابية حديثة، يبرز الشيخ مصطفى جمال، الذي نجح في جذب جمهور جديد من الشباب إلى عالم الإنشاد والمديح، بصوته العذب وأسلوبه الهادئ، استطاع جمال أن يدمج بين أصالة المقامات الشرقية وروح الموسيقى الحديثة، ليعيد تقديم التراث الصوفي في قالب يناسب العصر.
لم يكتفِ جمال بإحياء التراث القديم، بل قدم أعمالًا جديدة مستوحاة من القصائد الكلاسيكية، ما جعله واحدًا من أبرز وجوه المديح المعاصر الذين يجمعون بين الفن والإيمان، والتجديد والالتزام بروح التصوف.
"عليل يشتفي".. أنشودة تتصدر التريند وتلامس الوجدان
خلال الأشهر الأخيرة، تصدرت أنشودة "عليل يشتفي" محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن غناها عدد من المنشدين بروح صوفية نقية، ما جعلها تتردد في حفلات الزواج والمناسبات السعيدة وحتى في المقاهي الشعبية.
تتحدث الأنشودة عن الاشتياق إلى اللقاء الإلهي والحنين إلى النبي، بلغة شعرية رقيقة تعبر عن الحب والصفاء، وهو ما جعلها تلامس القلوب بمختلف الطبقات، ولعل السر في انتشارها يعود إلى مزجها بين اللحن البسيط والكلمات العميقة، حيث يستطيع المستمع أن يرددها بسهولة، لكنه يشعر في الوقت نفسه بمعنى أعمق يتجاوز حدود الطرب.
الإنشاد الصوفي في الصعيد والوجه البحري.. طقس اجتماعي لا يموت
في صعيد مصر، لا تخلو مناسبة فرح أو زواج من مجلس إنشاد يملأ المكان بالمديح والذكر. يتجمع الرجال والنساء على السواء، تتعالى الأصوات بالدفوف، ويتمايل الحاضرون في انسجام روحي يُشبه الطقوس القديمة للذكر الصوفي، أما في الوجه البحري، فينتشر الإنشاد في الموالد والمناسبات الدينية، حيث يتحول إلى احتفال جماعي بالحب الإلهي.
ورغم دخول الموسيقى الحديثة على الخط، ظل فن المدح يحتفظ بمكانته، لأنه يعبر عن وجدان الشعب المصري البسيط الذي يجد في كلمات المديح راحة وسكينة لا توفرها الأغاني التجارية.
سرّ البقاء.. روح تجمع بين الدين والفن
يرى النقاد أن سر استمرار الإنشاد الديني في مصر يعود إلى كونه فنًّا يجمع بين الإيمان والفطرة، إذ لا يعتمد على الاستعراض بقدر ما يعتمد على الصدق. فالمنشد الصوفي لا يؤدي أغنية، بل يعيش تجربة وجدانية يشارك فيها الجمهور؛ كما أن انتشار هذا الفن في السنوات الأخيرة عبر المنصات الرقمية أعاد له الحياة بين الشباب، حيث باتت المقاطع المنتشرة عبر "تيك توك" و"يوتيوب" وسيلة لنشر الإنشاد الصوفي إلى جمهور جديد.
الخلاصة والإفادة
من ميكروفون الشيخ ياسين التهامي في ساحات الذكر، إلى صوت مصطفى جمال في الحفلات العصرية، مرورًا بأنشودة "عليل يشتفي" التي تصدرت التريند، يثبت الإنشاد الديني الصوفي أنه ليس ماضيًا يُروى، بل فنٌّ حيٌّ يتجدد بروح مصرية أصيلة. إنه مرآة الروح وذاكرة الوجدان، وصوت القلب في زمن تزداد فيه الضوضاء، لكنه ما زال قادرًا على أن يجعل الناس يبتسمون بطمأنينة حين يسمعون كلمة "يا رسول الله".
فن المدح، الإنشاد الديني الصوفي، الشيخ ياسين التهامي، الشيخ مصطفى جمال، عليل يشتفي، المديح النبوي، الإنشاد الصوفي في مصر، الصعيد، الوجه البحري، الموالد المصرية، حفلات الزواج، المناسبات الدينية، التصوف المصري، المديح الشعبي، الفن الروحي