من الجولاني إلى الشرع.. القصة الكاملة لتحول أخطر رجل في سوريا إلى رئيسها الجديد

في صباحٍ رماديٍّ من شتاء دمشق، دوّت الصدمة في أروقة العالم حين أعلنت وسائل الإعلام الرسمية السورية فوز أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسم "أبو محمد الجولاني"، برئاسة الجمهورية بعد انتخابات وُصفت بأنها الأغرب في تاريخ البلاد الحديث. الرجل الذي كان قبل سنوات على رأس أخطر التنظيمات المسلحة في سوريا، عاد اليوم إلى المشهد ببدلة رسمية، وربطة عنق داكنة، وابتسامة لم تكن لتخطر على بال أحد ممن عاشوا عقد الحرب الدامية
كان طريق الجولاني إلى القصر الجمهوري محفوفًا بالدم والدهاء. وُلد في ريف دمشق لأسرة متوسطة، درس في مدارس العاصمة قبل أن يلتحق بالجامعة، وهناك بدأت ملامح شخصيته تتشكل بين الفكر الديني الحركي وحلم السلطة الذي ظل يراوده بصمت. بعد عام 2003، خرج من سوريا متجهًا إلى العراق، وهناك انضم إلى جماعة الزرقاوي، فتعلم فنون القتال والتخطيط العسكري، وذاق طعم النفوذ لأول مرة
لكن سقوط الموصل وتفكك تنظيم الدولة فتح أمامه طريقًا آخر، طريقٌ أكثر خطورة وأطول نفسًا. عاد إلى سوريا عام 2011، مع بدايات الاحتجاجات، تحت اسم مستعار: "أبو محمد الجولاني". أسس جبهة النصرة التي تحولت لاحقًا إلى هيئة تحرير الشام، وأدار واحدة من أكثر الكيانات المسلحة تعقيدًا في الصراع السوري. وفي خضم الفوضى، ظهر الجولاني كقائد صارم، يجمع بين الذكاء الميداني والخطاب الديني الموجه، لكنه في الوقت نفسه كان يعرف أن نهايته ستبدأ حين تنتهي الحرب
ومع تراجع المعارك وتحول الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ، بدأ الجولاني رحلة التحول الكبرى. خلع الزي العسكري، وظهر للمرة الأولى ببدلة رمادية، وتحدث في مقابلات تلفزيونية عن “الحكم الرشيد” و“الإدارة المدنية”. كان يدرك أن المعركة القادمة ليست بالسلاح، بل بالكلمة والصورة والشرعية السياسية. بدأ بفتح مكاتبه في إدلب أمام الإعلام الغربي، وسمح للمنظمات بالعمل في مناطق سيطرته، في محاولة لإعادة تشكيل صورته أمام المجتمع الدولي
ورغم الجدل، نجح الرجل في بناء إدارة مدنية منظمة في شمال سوريا، اعتمدت على الضرائب والحوكمة المحلية، بينما ظلت قبضته الأمنية محكمة خلف الستار. ومع مرور السنوات، بدأ الخطاب العالمي يتغير تدريجيًا. لم يعد "الجولاني" إرهابيًا فقط، بل تحول إلى “قائد محلي يتمتع بقدرة على حفظ الاستقرار في منطقته”. تلك الجملة التي وردت في تقرير غربي كانت بداية القبول الدولي الصامت
في عام 2025، وبعد غياب مفاجئ للرئيس بشار الأسد إثر أزمة صحية غامضة، دخلت سوريا مرحلة فراغ سياسي غير مسبوقة. ومع تزايد الانقسام بين الأجهزة الأمنية والكتل العسكرية، برز اسم أحمد الشرع كحل “غير تقليدي” لتوحيد البلاد. تم تعديل بعض القوانين الانتقالية، وأعلن ترشحه للرئاسة باسم مدني جديد، مؤكداً أنه "ترك الماضي خلفه"، وأنه "يسعى لبناء سوريا موحدة، حرة من التطرف والوصاية الأجنبية"
في الأسابيع التي سبقت الانتخابات، شهدت البلاد انقسامًا حادًا بين من يرى فيه “المنقذ من الفوضى” ومن يعتبره “الثعلب الذي غير جلده”. لكن المفاجأة كانت في صناديق الاقتراع، حيث فاز الشرع بنسبة مرتفعة من الأصوات في المناطق الشمالية والغربية، بدعم قبائل وشخصيات عسكرية كانت يومًا من خصومه.
في خطابه الأول من قصر الشعب، تحدث الشرع عن المصالحة الوطنية، وعن “إنهاء زمن الحرب وبداية زمن الدولة”. لم يتحدث عن الجهاد ولا عن السلفية ولا عن النصرة، بل عن الاستثمار، والتعليم، وإعادة الإعمار. كانت ملامحه هادئة، وصوته خفيضًا، وكأنه يعلم أن العالم يراقب تحوله بذهول
ورغم ما يحمله هذا المشهد من رمزية سياسية، إلا أن كثيرين رأوا فيه انتصارًا لبراغماتية لا تعرف حدودًا. فالرجل الذي قاتل النظام، ثم فاوضه، ثم نافسه، انتهى رئيسًا له. إنها مفارقة الشرق الأوسط التي تتكرر دومًا: من المتمرد الخارج عن القانون إلى الحاكم باسم الشرعية
اليوم، يقف أحمد الشرع أمام تحدٍّ وجودي جديد: كيف يقنع شعبًا مزّقته الحرب بأنه أصبح رجل دولة؟ وكيف يواجه مجتمعًا دوليًا لم ينسَ ماضيه؟. التاريخ وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن قصة “الجولاني” تحولت إلى واحدة من أكثر القصص السياسية غرابة في القرن الحادي والعشرين، قصة تُروى في مجالس السياسة كما في كتب التاريخ، بين من يراها “توبة سياسية” ومن يصفها بـ“خدعة القرن”
هكذا، من أزقة إدلب إلى مكاتب القصر الجمهوري في دمشق، عبر الجولاني طريقًا لم يسلكه أحد من قبله، ليصبح الشرع الجديد الذي يعيد رسم ملامح سوريا، دولة ما بعد الحرب.
كيف بدأت رحلة الشرع
في عام 2021 ظهر هذا الرجل لأول مرة أمام العالم مرتديًا بدلة رسمية، سيكون هذا التحول رقم ثلاثة في حياة أبي محمد الجولاني، قبلها كشف وجهه، وانفصل عن تنظيم القاعدة، وقاتل داعش، وبعدها تحولات أخرى. ما إن انتشرت صورته حتى خرجت أمريكا تتوعده، ذكرته بأنها تلاحقه وأن المكافأة تنتظر من يوصلها إليه، ولكن إليك المفاجأة، بعد أربع سنوات فقط، الرجل ذاته رئيسًا لسوريا، وباسمه الصريح أحمد الشرع يصافح رئيس أقوى دولة في العالم دونالد ترامب، وكان ترامب يعلم أن من يصافحه الآن كان قبل عشرين عامًا سجينًا لدى القوات الأمريكية في العراق.
من كان يتوقع أن رجلًا جاء من قلب التنظيمات الجهادية سيقف أمام الكاميرات، يقابل الرؤساء ويصافحهم ويحضر القمم الكبرى. منذ سبعينيات القرن الماضي عرف العالم حركات وشخصيات جهادية جميعها فشلت: تنظيم داعش والقاعدة وغيرها الكثير، فلماذا كانت تجربة الشرع مختلفة؟
ولد أحمد الشرع في السعودية عام 1982، العام الذي وقعت فيه مجزرة حماة، عاد إلى سوريا في سن التاسعة ليعيش مع عائلته في حي المزة بدمشق، وصفه جيرانه بأنه كان هادئ الطباع، وكان يرتاد المساجد ويعلم أن الاستخبارات السورية تراقب كل شيء، فعلى مقربة من منزله كان يقع المربع الأمني الأخطر في البلاد. عام 2003 كان طالبًا في كلية الطب، لكن حدثًا ضخمًا كان على وشك أن يغير وجه الشرق الأوسط ووجه ومسيرة حياته، حين غزت أمريكا العراق، فاتخذ الشرع قراره بسرية الذهاب إلى هناك، إذ تحولت سوريا حينها إلى ممر للمتطوعين الراغبين بقتال الغزاة، ونظام الأسد غض الطرف عنهم، بلا حقيبة ولا وداع استقل الشرع حافلة من دمشق إلى العراق برفقة شبان آخرين.
في العراق عمل الشرع تحت قيادة الرجل الأشهر في تنظيم القاعدة حينها، أبي مصعب الزرقاوي. تدخل الحرب يومها الحادي عشر ويسقط نظام صدام حسين، وما بقي في الميدان فوضى وملاحقات، يتعرض المقاتلون العرب في العراق للتضييق، فيعود الشرع إلى سوريا، ثم يعود مرة أخرى إلى العراق بعد عامين. في عام 2005، ومع اشتداد الحرب، تعتقله القوات الأمريكية في الرابع عشر من مايو، وأوهمهم بأنه عراقي باسم مستعار “أمجد مظفر حسين النعيمي”.
في السجن، حيث كانت الزنازين مدارس للأفكار الجهادية، التقى الشرع بأبي عمر سراقب الذي قال له: “إدلب هي الخيار الأفضل، منها يجب أن نبدأ، وعبرها سنسقط نظام الأسد”، وهناك كتب الشرع وثيقة من خمسين صفحة دون فيها أفكاره حول سوريا.
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 خرج الشرع من السجن، وتسلل إلى سوريا في أغسطس، ليؤسس بعد أشهر جبهة النصرة كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا ردًا على قمع النظام وصمت العالم. سرعان ما لفتت الجبهة الأنظار إليها، خاصة بعد أن رأى أبو بكر البغدادي فيها فرصة للتمدد. لكن الشرع رفض الانصهار في مشروع داعش، إذ رأى أنه كارثة مؤجلة، فآمن بفكرة جهادية هدفها إسقاط النظام لا إعلان الخلافة، وأعلن القطيعة مع داعش في عام 2013.
في 2014 اندلعت الحرب بين النصرة وداعش، ونجا الشرع من محاولة اغتيال. قرر بعدها أن يحدد مسارًا مختلفًا قائمًا على مشروع وطني سوري، وحدوده سوريا فقط، وعدوه بشار الأسد لا العالم.
في عام 2016، كشف الشرع وجهه لأول مرة وأعلن انفصاله عن تنظيم القاعدة وتأسيس “جبهة فتح الشام”، ثم في عام 2017 أعلن عن “هيئة تحرير الشام”، لتبدأ مرحلة جديدة من مشروعه السياسي. في إدلب أنشأ حكومة الإنقاذ كأول تجربة مدنية تدار تحت سلطته، ضمت أكاديميين ومدنيين، ونجحت في تحقيق استقرار نسبي إداري وخدمي في شمال غرب سوريا.
ومع مرور الوقت، بدأ الشرع يعيد تعريف نفسه أمام العالم، ففتح قنوات تواصل مع الغرب وأرسل رسائل طمأنة بأن القتال موجه ضد النظام لا الخارج. في عام 2021 ظهر في مقابلة مع الصحفي الأمريكي مارتن سميث مرتديًا بدلة رسمية، ليؤكد أنه أصبح سياسيًا أكثر منه عسكريًا، وأنه يسعى للتفاهم مع العالم.
لم يتبرأ الشرع من ماضيه الجهادي لكنه أعاد تعريفه، مؤكدًا أنه من قاتل داعش وانفصل عن القاعدة وواجه المتشددين. كان يتعامل مع القوى الدولية ببراغماتية، يتفاهم حينًا ويواجه حينًا آخر، ويتجنب الصدام المباشر مع الدول الكبرى.
بين عامي 2019 و2024، ركز على إصلاح البيت الداخلي، فوحّد الفصائل المسلحة ضمن غرفة عمليات “الفتح المبين” تحت راية واحدة، ومنع الانقسامات الداخلية. في 2021 أسس أول كلية عسكرية موحدة لتدريب المقاتلين ضمن مشروع جيش وطني جديد.
بحلول عام 2024 كانت سوريا على شفا الانهيار، والنظام منهك، بينما حلفاؤه روسيا وإيران غارقون في حروبهم. فاستغل الشرع الفرصة، وأطلق عملية “ردع العدوان” ضد قوات الأسد، فانهارت الجبهات بسرعة، وفرّ الجنود، وسقط النظام. في نوفمبر 2024 هرب بشار الأسد من دمشق، وأعلن الجيش سقوط النظام رسميًا.
دخل الشرع القصر الرئاسي، ليصبح أول قائد جهادي سابق يتولى حكم سوريا باسمه الحقيقي أحمد الشرع. أصدر قرارات بحل الفصائل، وتأسيس جيش موحد، وإلغاء أجهزة المخابرات القمعية، وعقد مؤتمرًا للحوار الوطني أعلن خلاله دستورًا انتقاليًا وحكومة مؤقتة.
بدأت سوريا في عهده تستعيد علاقاتها تدريجيًا مع العالم، وعاد اللاجئون، ورفعت العقوبات جزئيًا، لكن التحديات لم تنتهِ، فاندلعت احتجاجات في الساحل والسويداء، واتُهمت قواته بارتكاب تجاوزات، فأمر بالتحقيق وأكد على محاسبة المتورطين.
اليوم يقف أحمد الشرع أمام اختبار جديد، بين إعادة بناء دولة منهارة والحفاظ على وحدة سوريا المهددة، وبين التعامل مع إسرائيل التي تواصل هجماتها في الشمال. إنها تجربة فريدة لرجل بدأ من الظل في تنظيم جهادي، لينتهي في قصر الرئاسة، بين من يراه منقذًا لسوريا ومن يعتبره متحولًا سياسيًا تحكمه البراغماتية، لكن المؤكد أن الشرع غير وجه التاريخ في بلد أنهكته الحرب والتحولات.
أبو محمد الجولاني، أحمد الشرع، رئاسة سوريا، تحول الجولاني، الحرب في سوريا، إدلب، هيئة تحرير الشام، بشار الأسد، انتخابات سوريا، الذكاء السياسي، التحول من السلاح إلى السياسة، مستقبل سوريا،