العرب 24
جريدة العرب 24

أعادت رسم فهمنا للطاقة الحيوية

فطريات تتغذى على الإشعاع النووي.. دراسة علمية تكشف مفاجأة التركيب الإشعاعي

فطر الإشعاع النووي
دعاء مكرم عبد اللطيف -

اكتشاف غير متوقع داخل تشيرنوبيل يفتح الباب أمام ثورة علمية جديدة

منذ الانفجار الكارثي الذي ضرب مفاعل تشيرنوبيل في أوكرانيا عام ١٩٨٦، ظلت المنطقة المحيطة بالمفاعل رمزاً للموت البيئي والإشعاعات القاتلة التي لا تسمح لأي كائن حي بالنجاة، غير أنّ المشهد تغيّر تدريجياً مع ظهور اكتشاف علمي أثار فضول الباحثين حول العالم، حين لاحظ العلماء في أوائل التسعينيات وجود فطريات سوداء اللون تنمو على جدران المفاعل المدمر نفسه، في موقع يُفترض أنه غير صالح للحياة، هذا الاكتشاف كان بداية قصة علمية مدهشة دفعت العلماء إلى إعادة التفكير في حدود قدرة الكائنات الحية على التكيف، بل فتحت آفاقاً جديدة للتعامل مع الطاقة والإشعاع في المستقبل

ظاهرة التركيب الإشعاعي كيف يمكن لفطر أن يستفيد من أخطر أنواع الطاقة

تابع العلماء نمو هذه الفطريات على مدار سنوات، فاكتشفوا أن أكثر من مئتي نوع منها تستوطن جدران المفاعل والمباني المحيطة به. من بين هذه الأنواع يبرز Cladosporium sphaerospermum وCryptococcus neoformans، وهي فطريات تمتاز بلونها الداكن الناتج عن احتوائها على مستويات مرتفعة من صبغة الميلانين، وعلى الرغم من أنّ الإشعاع النووي قاتل لمعظم أشكال الحياة، إلا أنّ هذه الفطريات لا تكتفي بتحمله، بل تنمو بشكل أفضل كلما زادت شدة الإشعاع. وهنا بدأ العلماء يتساءلون: هل يمكن أن تكون هذه الكائنات قادرة على تحويل الإشعاع إلى طاقة تساعدها على النمو

أطلق العلماء على هذه العملية المذهلة اسم التركيب الإشعاعي، وهي ظاهرة تشبه من حيث الفكرة عملية البناء الضوئي التي تقوم بها النباتات. وفي البناء الضوئي تستخدم النباتات الضوء القادم من الشمس لتوليد طاقة كيميائية، أما في التركيب الإشعاعي فتستخدم الفطريات الإشعاع المؤين، وخاصة أشعة غاما، لتسريع عملياتها الحيوية، ورغم أنّ التفاصيل الدقيقة لآلية التحويل ما زالت موضع بحث، فإن الأدلة تشير إلى أنّ الميلانين يلعب دوراً محورياً في امتصاص الطاقة الإشعاعية وتحويلها إلى شكل من الطاقة الحيوية القابلة للاستخدام داخل الخلية

الميلانين بطل خفي يحوّل الإشعاع إلى طاقة

يشبه العلماء دور الميلانين في هذه الفطريات بدور الكلوروفيل في النباتات. فبينما يمتص الكلوروفيل الضوء ويحوّله إلى جلوكوز، يمتص الميلانين الإشعاع وينشط من خلاله حركة الإلكترونات داخل الخلايا، ما يؤدي إلى تعزيز النمو، وقد أجريت تجارب مخبرية عديدة أكدت أنّ الفطريات المحبة للإشعاع تنمو بسرعة أكبر عندما تتعرض لمستويات عالية منه، وهو سلوك معاكس تماماً لكل ما هو معروف عن تأثير الإشعاعات على الكائنات الحية، ولذلك أصبح الميلانين أحد أكثر الجزيئات الحيوية إثارة لاهتمام علماء الأحياء في العقود الأخيرة

تشيرنوبيل مركز أبحاث بيولوجية غير مقصود

ورغم الخطورة الدائمة التي تحيط بمنطقة تشيرنوبيل، فإنها تحولت بمرور الوقت إلى مختبر طبيعي لدراسة قدرة الكائنات على النجاة في البيئات القاسية، وجود أعداد كبيرة من الفطريات المحبة للإشعاع دفع العلماء إلى توسيع البحث ليشمل مواقع أخرى تعرضت لمستويات عالية من الإشعاع، مثل مختبرات تجارب الأسلحة النووية ومحيط منشآت الطاقة النووية، وظهر بالفعل أن كثيراً من الأنواع الداكنة تنجذب إلى البيئات المشعة، ما يشير إلى أنّ هذه الظاهرة ليست محصورة في تشيرنوبيل وحدها، بل هي سلوك بيولوجي متكرر يعتمد على وجود الميلانين كعامل أساسي في امتصاص الإشعاع

بين الأرض والفضاء تطبيقات مستقبلية مذهلة لتكنولوجيا الفطريات المشعة

مع تزايد الاهتمام العالمي بالرحلات الفضائية طويلة المدى، باتت حماية رواد الفضاء من الإشعاعات الكونية تحدياً مركزياً لوكالات الفضاء. وهنا ظهر سؤال جديد هل يمكن استخدام هذه الفطريات كدرع بيولوجي يحمي الإنسان في الفضاء من الإشعاعات الضارة؟ بدأت التجارب العملية بالفعل، حيث أرسلت عينات من هذه الفطريات إلى محطة الفضاء الدولية بهدف اختبار قدرتها على النمو وامتصاص الإشعاع في بيئة خارج الأرض، وكانت النتائج الأولى مشجعة، إذ أظهرت العينات قدرة على إنشاء طبقة عازلة تقلل من حدة الإشعاع، ما جعل العلماء يتخيلون إمكانية دمج هذه الفطريات في ملابس رواد الفضاء أو في جدران المركبات الفضائية نفسها

تنظيف المواقع النووية هل يمكن للفطريات أن تتولى المهمة؟

إضافة إلى الاستخدامات الفضائية، يدرس العلماء إمكان توظيف هذه الفطريات في عمليات التنظيف البيولوجي للمواقع النووية. فمن المعروف أن إزالة آثار التلوث الإشعاعي يمثل أحد أصعب التحديات البيئية، ويتطلب تقنيات مكلفة وربما غير فعالة على المدى الطويل، أما وجود كائنات قادرة طبيعياً على امتصاص الإشعاع وتحويله إلى طاقة فقد يفتح الطريق أمام حلول أقل كلفة وأكثر صداقة للبيئة، ورغم أنّ هذا المجال ما يزال في بداياته، فإن المؤشرات العلمية الحالية تؤكد أنّ التركيب الإشعاعي قد يصبح في المستقبل إحدى أهم التقنيات الحيوية المستخدمة في معالجة التلوث النووي

حدود العلم وأسئلة المستقبل

ورغم التقدم الكبير في البحث، لا تزال أسئلة عديدة معلقة. ما هي الآلية الدقيقة التي يعتمد عليها الميلانين في تحويل الإشعاع إلى طاقة؟ وهل يمكن تطوير هذه العملية في كائنات أخرى غير الفطريات؟ وهل يمكن للهندسة الوراثية أن تُنتج أنواعاً من الفطريات أو البكتيريا قادرة على امتصاص الإشعاع بطاقة أكبر؟ هذه الأسئلة تجعل التركيب الإشعاعي واحداً من أكثر المجالات العلمية إثارة للاهتمام في السنوات المقبلة

فطريات مشعة، التركيب الإشعاعي، تشيرنوبيل، الميلانين، فطريات تمتص الإشعاع، طاقة الإشعاع النووي، فطريات الفضاء، حماية رواد الفضاء، إشعاع غاما، تنظيف المواقع النووية