العرب 24
العرب 24

معالم في الطريق .. نقد تحليلي لأفكار سيد قطب في كتابه المشهور (مواجهة الفكر المتطرف)

سيد قطب معالم في الطريق
أحمد واضح العلامي -

إن كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب يُعد نقطة مفصلية في الفكر الإسلامي الحديث، ليس فقط لتأثيره الواسع، بل لكونه يمثل قطيعة معرفية ومنهجية مع الكثير من الأطروحات الإسلامية التقليدية والمعاصرة. يعمد قطب في هذا الكتاب إلى صياغة رؤية شاملة للوجود الإنساني والعلاقة بين الدين والدولة والمجتمع، مبنية على مفاهيم محددة تفتح الباب لتأويلات صدامية.

1. مفهوم الجاهلية: توسيع نطاق التكفير وتبرير القطيعة

يُعد مفهوم "الجاهلية" في "معالم في الطريق" حجر الزاوية في فكر قطب، وهو يمثل تحولًا جذريًا عن الفهم التقليدي. فبينما كانت الجاهلية تُشير تقليديًا إلى فترة ما قبل الإسلام التي سادت فيها عبادة الأوثان والجهل بالدين، يوسع قطب هذا المفهوم ليُصبح حالة عالمية شاملة. يرى قطب أن "الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول، فهو إما أن يكون هو كل شيء في الحياة أو لا يكون شيئاً ذا قيمة"، وبالتالي فإن أي مجتمع لا يطبق الشريعة الإسلامية بالكامل، ويحكم بقوانين وضعية أو يقبل سيادة بشرية، هو مجتمع جاهلي. هذا يشمل - بحسب رؤيته - المجتمعات المسلمة المعاصرة التي لا تحكم بالشريعة بمعناها الشامل لديه.

النقد:

  • تكفير المجتمعات: يؤدي هذا التوسع في مفهوم الجاهلية إلى تكفير قطب للمجتمعات المسلمة التي لا تلتزم بتفسيره الصارم للشريعة. هذا التكفير الجماعي يُفضي إلى عزل الفرد المسلم عن محيطه الاجتماعي، ويُبيح له في النهاية الانفصال عن هذه المجتمعات وربما محاربتها. إن مفهوم "الجاهلية الشاملة" يُغفل التدرج في تطبيق الأحكام، والتنوع في الفهم، وواقع تعقيدات الدول الحديثة، ويُسقط حكمًا واحدًا على كيانات متنوعة.
  • إلغاء التجديد والاجتهاد: بتصنيفه لكل ما هو غير إسلامي (بتفسيره) على أنه جاهلية، يُغلق قطب الباب أمام أشكال التجديد والاجتهاد التي لا تتفق مع رؤيته، ويُلغي قيمة التراكم المعرفي والحضاري للبشرية خارج إطار الفكر الإسلامي الذي يتبناه.
  • بناء على حكم قيمي: هذا التوصيف ليس تحليلاً اجتماعيًا بل هو حكم قيمي يحمل دلالات سلبية جدًا، حيث لا يرى قطب أي مساحة للتدرج في تطبيق الإسلام أو للاعتراف بوجود عناصر إيجابية في المجتمعات "الجاهلية" بحسب توصيفه.

2. مفهوم الحاكمية: صراع دائم مع السلطة البشرية

ينبثق مفهوم "الحاكمية" من رحم مفهوم الجاهلية، وهو يُمثل المحور العقائدي والسياسي الأبرز في فكر قطب. يرى قطب أن "الحاكمية لله وحده"، وهذا يعني أن التشريع والسلطة المطلقة في كل جوانب الحياة – الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية – هي لله وحده، ولا يجوز لأي بشر أن يُشرّع أو يحكم بغير ما أنزل الله. بالنسبة لقطب، فإن أي نظام حكم يعتمد على قوانين وضعية أو يمنح السيادة للشعب (كما في الديمقراطية) هو نظام "جاهلي" و"طاغوتي" يتعدى على حق الله في الحاكمية.

النقد:

  • رفض الديمقراطية والأنظمة المدنية: يُعد رفض قطب الصريح للديمقراطية، واعتبارها نظامًا جاهليًا يتعارض مع حاكمية الله، نقطة خطيرة للغاية. فالديمقراطية، رغم عيوبها، تُمثل إطارًا يسمح بالمشاركة الشعبية والتداول السلمي للسلطة والتعبير عن الرأي. رفضها المطلق يُفضي إلى بدائل غير ديمقراطية قد تكون استبدادية أو عنفية.
  • مصادرة الاجتهاد البشري: بالرغم من أن مبدأ حاكمية الله هو مبدأ إسلامي أصيل، إلا أن تفسير قطب له يؤول إلى مصادرة أي شكل من أشكال الاجتهاد البشري في سن القوانين وتطوير الأنظمة بما يتناسب مع ظروف العصر، طالما لم تنص عليها الشريعة نصًا صريحًا. هذا يغلق الباب أمام مرونة الإسلام في التعامل مع مستجدات الحياة.
  • تغذية الصراع على السلطة: بتحويل مفهوم الحاكمية إلى قضية صراع مع أي سلطة بشرية، يغذي قطب نظرة صدامية تجاه الدولة القائمة والمؤسسات، مما يدفع الأتباع إلى اعتبار النظم القائمة عدوًا يجب إزالته، وليس إصلاحه أو المشاركة فيه.
  • الغياب العملي للتطبيق: لا يقدم قطب نموذجًا عمليًا لكيفية تطبيق الحاكمية الإلهية المطلقة في دولة حديثة، وكيفية التعامل مع تحديات الإدارة والاقتصاد والعلاقات الدولية في ظل هذا المفهوم الصارم، مما يجعلها أقرب إلى الطوباوية المثالية التي يصعب تطبيقها إلا بالعنف.

3. مفهوم الطليعة المؤمنة: الانعزال وتبرير التمرد

في ظل رؤيته للجاهلية الشاملة وضرورة إقامة حاكمية الله، يدعو قطب إلى تشكيل "طليعة مؤمنة" أو "عصبة مؤمنة" أو "نخبة مسلمة". هذه الطليعة هي التي يجب أن "تعتزل الجاهلية وأهلها"، وتنفصل عنها شعوريًا ومنهجيًا وعمليًا، وتستعد لإقامة المجتمع الإسلامي. يرى قطب أن هذه الطليعة هي التي تحمل راية الإسلام الحقيقي، وهي المنوط بها قيادة البشرية للخروج من "الضلال الجاهلي".

النقد:

  • تغذية الانعزالية: يُشجع هذا المفهوم على الانعزالية الاجتماعية والانفصال عن عامة المسلمين والمجتمع ككل. بدلاً من الدعوة إلى الإصلاح من الداخل أو المشاركة الإيجابية في بناء المجتمع، تدعو هذه الفكرة إلى الانسحاب، مما يُضعف النسيج الاجتماعي ويُنشئ جماعات معزولة عن محيطها.
  • شرعنة التمرد والعنف: مفهوم "الطليعة المؤمنة" يُمكن أن يُفسر على أنه يمنح هذه الجماعة "المختارة" الحق في التمرد على الأنظمة القائمة والمجتمعات التي تُصنفها جاهلية، بل ومحاربتها لإقامة "مجتمع الحاكمية". هذا المفهوم يُعطي شرعية ذاتية لعمليات العنف والاضطراب.
  • الولاء والبراء المتطرف: يُعزز مفهوم الطليعة فكرة "الولاء والبراء" بشكل متطرف، حيث يكون الولاء للطليعة المؤمنة وحدها، والبراء من كل من هو خارجها. هذا يضيق دائرة الأخوة الإسلامية ويُفضي إلى عداوات داخل الأمة.
  • صناعة "الآخر" الداخلي: بتحويل المجتمع المسلم نفسه إلى "جاهلية"، تُصنع الطليعة المؤمنة "آخرًا" داخليًا، وهو المسلم الذي لا يتبنى أفكارها، مما يمهد للصراع الداخلي والفتن.

4. المنهج الحركي والتغيير: الدعوة إلى الصدام الشامل

يرفض قطب المناهج الإصلاحية التدريجية أو الدعوية الفردية التي تهدف إلى تغيير المجتمع من خلال التربية والأخلاق أولاً. بدلاً من ذلك، يدعو إلى منهج حركي شامل يهدف إلى "إزالة نظم الجاهلية" وإقامة حكم الله. هذا المنهج لا يرى قيمة في التغيير الجزئي أو السلمي، بل يرى ضرورة "الجهاد" بمعناه القتالي الشامل، كأداة لإزالة الطواغيت وإقامة الدولة الإسلامية.

النقد:

  • تفضيل العنف على الإصلاح السلمي: يُعد هذا أخطر ما في منهج قطب. فهو يُعلي من شأن الجهاد القتالي كوسيلة أساسية للتغيير، ويُهمش أو يرفض الطرق السلمية للإصلاح السياسي والاجتماعي. هذا يفتح الباب أمام الحركات المسلحة التي تتخذ من هذا الكتاب مرجعًا لها لتبرير العنف ضد الدول والمجتمعات.
  • غياب التدرج: الإسلام دين جاء ليُحدث تغييرًا تدريجيًا في النفوس والمجتمعات. منهج قطب يرفض هذا التدرج، ويُطالب بتغيير شامل وفوري، وهو أمر غير واقعي ويُفضي غالبًا إلى الفشل والعنف المضاد.
  • إلغاء أهمية البناء الداخلي: يُركز المنهج الحركي على إسقاط الأنظمة بدلاً من بناء الفرد المسلم القوي، والأسرة الصالحة، والمؤسسات المدنية الفاعلة. هذا التركيز على "التغيير من الأعلى" يُفضي إلى تفكك البنى التحتية للمجتمع.
  • تحويل الإسلام إلى أيديولوجية سياسية: بتحويل الجهاد إلى صراع سياسي بالدرجة الأولى لإقامة دولة، يُفقد الإسلام الكثير من روحيته وأخلاقه وقيمه الإنسانية الشاملة، ويُصبح مجرد أيديولوجية تُبرر الصراع على السلطة.

5. التأثير على الفكر المتطرف وخطورة "معالم في الطريق"

إن خطورة "معالم في الطريق" لا تكمن فقط في أفكاره النظرية، بل في تأثيره العملي الهائل على نشأة وتطور الحركات الجهادية المسلحة.

  • تغذية الأيديولوجيا العنفية: قدم الكتاب الأساس الأيديولوجي للعديد من الجماعات المتطرفة كتنظيم القاعدة وداعش، التي وجدت في مفاهيم "الجاهلية الشاملة" و"الحاكمية" و"الطليعة المؤمنة" وضرورة "الجهاد الهجومي" تبريرًا لأعمال العنف والتكفير ضد الأنظمة والمجتمعات.
  • التأثير على قادة الفكر المتطرف: يُعتبر الكتاب مرجعًا أساسيًا لشخصيات مثل أيمن الظواهري وأسامة بن لادن، الذين اعتنقوا هذه الأفكار وطبقوها في تنظيماتهم.
  • انشقاق المجتمع الإسلامي: ساهم الكتاب في تفكيك الوحدة الفكرية للمسلمين، وخلق انقسامات حادة بين فكر قطب وما يُعرف بالتيارات الإسلامية المعتدلة أو الإصلاحية.
  • تشويه صورة الإسلام: أدت الأيديولوجيا العنفية المستوحاة من هذا الكتاب إلى تشويه كبير لصورة الإسلام والمسلمين عالميًا، وربطها بالتطرف والإرهاب.

الخلاصة النقدية: يمكن القول إن "معالم في الطريق" ليس مجرد كتاب فكري، بل هو بيان سياسي ثوري يدعو إلى قطيعة شاملة مع الواقع القائم وإقامة نظام بديل عبر الصدام. رغم النوايا الحسنة التي قد تُنسب لقطب في الدفاع عن الإسلام، فإن منهجه ومفاهيمه الصارمة أدت إلى نتائج كارثية تمثلت في التكفير، الانعزال، وشرعنة العنف السياسي، مما جعله مصدر إلهام لأخطر الحركات المتطرفة في العصر الحديث. يتطلب التعامل مع هذا الكتاب فهمًا عميقًا لسياقه التاريخي، وفي الوقت نفسه نقدًا صارمًا لمضامينه التي تتنافى مع جوهر الإسلام من الرحمة والتسامح والاعتدال.